هل تعلم أن فن الإعداد والتذوق للجبن يكمن في غير الأجبان البيضاء. إذ يعتبر خبراء الأجبان الجبن الأبيض جبناً بدائي الطعم سهل التحضير لا فن فيه ولا إتقان. وقولهم هذا فيه صحة نسبية فعالم الأجبان اليوم عالم يعج بالعجائب واللذائذ، وهو عالم قائم بحد ذاته في دنيا التصنيع الغذائي، ورغم أن بدايات هذا العالم قديمة في أوروبا تحديداً إلا أن اعتماده كعلم تصنيعي بخطوات ثابتة تتطور مع تطور الأبحاث العلمية لم يبدأ فعلاً إلا بعد عام 1800م، وهذا لا يعني طبعاً أن الأجبان الموجودة حالياً لم تكتشف إلا بعد هذا التاريخ، وإنما جمعها في إطار صناعي غذائي اقتصادي لم يثبت قبل هذا التاريخ.وقد يتساءل البعض ولماذا أوروبا تحديداً؟والأمر لا يحتاج إلى كبير تفكير فأوروبا فيها مراع ومروج خضراء، والأبقار عندهم هي الأكثر، وعليه ففائض الحليب الذي يحتاج إلى الحفظ هو هناك.
ويذكر لنا التاريخ أن تصنيع الجبن في المنازل والمزارع موغل في القدم، وأن الأنواع وإن كانت مختلفة البلدان فهي قريبة في طريقة الإعداد وربما تقاربت أسماؤها مع الأيام. فالجبن الفرنسي المسمى إيدم (Edam) هو نفسه في إيطاليا، ويسمى في هنغاريا إدمي (Edami)، وفي يوغوسلافيا إدمك (Edamic) وجمعت الطرق ووضعت لها معالم ونظر له حتى ثبت تحت «إيدم». وهكذا يكون القياس على مئات الأصناف من الأجبان.
أمريكا ..
كالعادة! واليوم هناك حقيقة وهي أن سيادة صناعة الأغذية والأجبان هي سيادة أمريكية، وتتفوق الولايات المتحدة في هذا الجانب عن أوروبا بمراحل لا تطال، والأمر مرهون بخيرات تلك البلاد التي أعطاهم إياها المولى عز وجل والبحث العلمي الذي استفادوا من قدرات عقول العالم أجمع في تطويره.كما أن من الحقائق في هذا الجانب الأخير أن البعثات العالمية والدارسين من أقطار العالم أجمع قد ساعدوا في بناء صرح صناعة الغذاء هناك، ثم عادو إلى بلادهم بخفي حنين. ما علينا دعونا نعد إلى الجبن، ونقول إن مثالاً واحداً يرينا كم كمية الحليب التي تنتجها أبقار أمريكا. والمثال هو أن ولاية أمريكية واحدة فقط تسمى «وسكانسن» تنتج أكثر من 10% من إنتاج العالم أجمع (شرقه وغربه) من الحليب. ويعقدون هناك مؤتمراً سنوياً لمناقشة آخر الأبحاث في صناعة الألبان والأجبان وفوائدها. ولهذا المؤتمر طقوسه الخاصة.أين الجبنة؟ هل سبق لك أن شاهدت في أحد «السوبر ماركات» الكبيرة منطقة محاطة بالزجاج ومعروض فيها أنواع من الأجبان ذات الأشكال والألوان الغريبة عليك، وإذا ما دققت النظر في الأسعار ضحكت منها فهي أرقام لا تصدق، فقد تجد الكيلو بـ 159 ريالاً، وربما علقت ورقة على بعضها بأنها مخفضة والسعر بعد التخفيض بـ 89 ريالاً أو 79 ريالاً. هذه الأجبان هي المعنية، كما أن الأجبان التي توجد في أرفف الثلاجات للأسواق الكبيرة نفسها هي المعنية.
جولة مع بعض الأنواع
هناك مئات الأنواع من هذه الأجبان، وتختلف في ألوانها وطرائق تصنيعها وطعمها عن بعضها اختلافاً كبيراً، إلا أن ما يميزها عن الجبن الأبيض هو أنها ناضجة أو معتقة في تصنيعها. ولن نأتي على جميع الأنواع ولكن سنختار.التشدر ملكة الأجبان بلا منازع جبنة التشدر (Chedder) هي ملكة الأجبان المتوجة عليها بلا منازع، تسمى في أمريكا بالجبنة التشدر الأمريكي، وإن كانت أوروبية النشأة، إلا أنها من أكثر الأجبان التي لاقت عناية وتطويراً بحثياً في الولايات المتحدة، وهي تصنع من حليب الأبقار المبستر كامل الدسم، وربما عومل الحليب بفوق أكسيد الهيدروجين للقضاء على البكتيريا الموجودة فيه، وتزاح بعد ذلك بقايا هذا الغاز «بانزيم الكاتاليز» ثم يضاف البادئ (وهو أنواع البكتيريا التي تحول سكر اللاكتوز في الجبن إلى حامض اللبن أثناء مرحلة التعتيق ليعطيها الحموضة الخاصة بها). وتمر مراحل تصنيع الجبن التشدر بعد وضع انزيم الرينين (المستخلص من أنفحة العجول) بمرحلة التخثر ثم التقطيع والتصفية والفرم والتجميع ثم الكبس (وهي مراحل لا داعي للتفصيل فيها)، ثم بعد الكبس توضع في أكياس من النايلون على هيئة أشكال مربعة كبيرة (قوالب) ويسحب الهواء من الكيس (فاكيوم) وتوضع في غرف التبريد لمدة تخزين 60 يوماً أو أكثر بهدف التعتيق، وإنتاج حامض اللاكتيك (اللبن) بداخلها.والجبن التشدر يضاف إليها لون من الأصباغ أشهرها صبغة «الأناتو» الطبيعية التي تعطيها اللون الأصفر البرتقالي الخاص.وتقسم جبنة التشدر إلى ثلاثة أصناف حسب حموضتها ولذعان طعمها وهي قليلة اللذعان وعادية ولاذعة (Sharp) وهي ألذ الأنواع الثلاثة، وإن كانت جميع الأنواع لذيذة جداً. وتشترط المواصفات الأمريكية بأن لا تزيد الرطوبة في التشدر على 39% ، وأن لا يزيد الدهن على 50% (من الوزن الجاف)، لذا فإن الجبن التشدر جبن عالي الدهن تزودك كل 100 جرام بحوالي 406 سعرات حرارية، ولكن الكمية التي تأكلها منها في الوجبة لن تتعدى 20 إلى 30 جراماً فقط.والجبن التشدر غالية الثمن نسبياً وهي غير الجبن المسمى تشدر والمعلب (والذي منه المسمى كرفت) فإن الجبن المعلب نوع آخر يسمى المطبوخ وسوف يأتي الحديث عنه لاحقاً.
السويسري الفاخر
تصنف الجبن السويسري (Swiss) ضمن الأجبان الفاخرة واللذيذة، ولها خصوصية في لذتها لوجود طعم حامضي له مذاق فريد يسمى حامض «البروبيونيك» وتسمى الجبن السويسري في أوروبا «أمتال». وتتميز بوجود الفتحات «العيون» فيها، وهذه العيون تتكون من الحامض أثناء مرحلة التعتيق ونشاط بكتيريا البادئ فينتج غاز ثاني أكسيد الكربون وحامض البروبيونيك ونتيجه لحصر الغاز في داخلها تتكون العيون.والجبن السويسري قليلة الملوحة، فهي تملح في محاليل ملحية خارجية تغمر فيها لمدة زمنية محدودة، وهي على شكل قوالب كبيرة، ثم ترفع من المحلول وتزال الطبقة الخارجية من القالب. وتقطع إلى قوالب صغيرة.الجبن السويسري جبن دسم أيضاً، كما أن من المواصفات الأمريكية لها أن لا تزيد رطوبتها على 41%. وتباع الجبن السويسري عندنا بأسعار غالية جداً ومعظمها مستورد من أوروبا وأمريكا والعذر في غلائها هو لذتها الفائقة.أنواع مشابهة وتقديم خاص هنالك أنواع أخرى من الأجبان شبه الجافة والتي تشبه في طرائق إعدادها الجبن التشدر أو السويسري مثل الإيدم (ذات تشمع الأحمر) وقودا وروماني الفرنسية وغيرها. وكلها تقدم بطرائق خاصة وتؤكل بأصول عامة عند أهلها، فعادة ما تقدم على هيئة مكعبات صغيرة، وتؤكل بقليل من الخبز شبه الجاف أو البسكوت المالح «الكركرز» وربما قدم معها نوع من العصائر النقية (تفاح أو عنب أو ليمون) أو قطع من الفواكه الطازجة.وفي أيام الشتاء تسيح بعض الأنواع وتغمس فيها قطع الخبز الجاف المكعبة، أو قد تغمس الجبنة السويسرية في جبن مساح في آنية خاصة تحتها شمعة للحفاظ عليها ساخنه سائحة.وأخرى جافة هناك أجبان جافة لها استخداماتها الخاصة مثل الجبن الرومي وجبن البارميزان. وتعد جبنة البارميزان من الحليب منزوع الدهن، وتملح وتوضع في قوالب خاصة بعد تصنيعها (بدون كبس) لمدة أسبوع على الأقل، ثم تسوى (تنضج) بعد ذلك لمدة سنة في حجرة باردة وتقل أثناءها رطوبتها وينتشر طعمها المميز. وعادة ما تباع مبشورة لتستخدم رشاً فوق الأكلات الإيطالية (مثل الأسبكتي والبيتزا).وأخرى دقيقة فاخرة هناك أنواع من الأجبان تصنف بأنها فاخرة جداً ولا تؤكل إلا مسحاً أو على الرائحة، كما يقال. وهي عادة ما توضع ضمن الأغذية الراقية الرقيقة (Fine Food) وهذه الأجبان إما أن تكون معتقة جداً مثل البري (Brie) الفرنسية وإما ملقحة بأنواع معينة من الفطر مثل الجبن الأزرق أو الكممبرت.
ملكة أجبان فرنسا
يسمي الفرنسيون ومنذ مئات السنين جبنة البري (Brie) بالملكة. والطريقة الفرنسية في إعداد هذه الجبنة تختلف عن الطريقة الأمريكية، فهي تعتق في فرنسا حتى يتكون اللون الأبيض على سطحها وتنتشر رائحتها حتى لا يمكن لمن لا يعرفها أن يستسيغ طعمها. أما الفرنسيون فهم يتلذذون بهذه الجبنة التي تحتوي على 45% من وزنها الجاف دهناً.
الأجبان الخاصة بأهل الذوق الرفيع
هناك طبقة من الناس (ربما تكون أو تكونين منهم) عندهم حواس ذوقية رفيعة جداً، وكأن حلمات اللسان عندهم لم تفسدها الحوادق والبهارات، هؤلاء هم أكثر الناس تذوقاً للجبن المسمى كممبرت أو اللمبورجر أو الجبن الأزرق.. فما هذه الأجبان؟الكممبرت جبنة الرومانسية (Camembert) هل سبق لك أن ركبت الطائرة في الدرجة الأولى وأتحفت بقطعة من الجبن مثلثة الشكل، على سطحها طبقة قطنية رقيقة جداً بيضاء هذه هي الكممبرت. هذه الجبنة الناعمة الرهيفة كلها فن في إعدادها وحفظها وشكلها وأكلها.أما إعدادها فهي تعد جبنة كريمية عادية الخطوات، وبعد أن تشكل على هيئة قوالب دائرية ذات سمك محدد يزرع جانباً فطر خاص يسمى «بنسيليوم كمبرتي» وهو نوع رقيق مثل الفطر الأبيض الذي ينمو على الخبز الشبيه بالقطن الناعم يؤخذ هذا الفطر ويخلط بشيء قليل من جوز الهند المبشور (للمساعدة على نثره على سطح الجبنة) وينثر على القرص ويحفظ في غرف خاصة لعدد من الشهور، وبعد ذلك يصبح القرص ذا لون أبيض السطح من الخارج وقد تشرب داخله بالحموضة الخفيفة جداً والنكهة الراقية الناعمة (وكأنها نكهة المشروم أو الفقع الخفيفة جداً، والتي لا تتلمسها إلا الأنوف الحساسة للروائح الراقية). أما كيف يكون الفن في تقديمها فهو يقطعها إلى مثلثات تقدم مع عصير رائق وقطع من البسكويت المالح خفيف الملوحة.أما اللمبوقر (Limburger) فهي شبيهة بالكممبرت إلا أنها أكثر حدة في الطعم. إذ تلقح بنوع خاص من البكتيريا تعطيها نكهة وطعماً خاصين.
الجبن الأزرق شيء آخر..
إن أرقى ما توصل إليه العقل البشري في إعداد الجبن الفاخر الناعم هو الجبن الأزرق ويسمى في فرنسا ركفور، وهناك فارق بين الركفور والأزرق بأن الركفور يصنع من حليب الغنم، أما الأزرق فهو تطوير أمريكي يصنع من حليب البقر. كما يشترط لكي يسمى ركفور أن يكون مصنعاً في فرنسا تحديداً.وقبل أن نتلمس فن إعداد هذه الجبنة الأكثر لذة، لا بأس بأن نصف شكلها، فهي جبنة بها عروق زرقاء ضاربة إلى الخضرة الخفيفة وهي التي يراها البعض فيظن أنها فاسدة بهذا العفن المتعرق في داخلها بلونه الأزرق.ولكن إذا تذوقها (على أصولها كما يقال) فقد حكمه الأدمان عليها والبحث عنها حتى لو كانت في جزر الواق الواق.تحضر الجبنة الزرقاء من بادي ومنفحة بصورة عادية، ولكن بعد أن تقطع الخثرة تقلب وتصفى بشاش ويضاف إليها الملح (1%) رشاً، وتعبأ في قوالب خاصة ثم يلقح الفطر بفتات الخبز. والفطر المستخدم يسمى «بنسيليوم ركفورت». يرش فتات الخبز الملقح بالفطر على قوالب الجبن وتحفظ في غرفة خاصة لمدة يوم ثم تقلب ويرش عليها ملح (4%) وتنقل إلى غرفة التسوية لمدة شهرين إلى ثلاثة أشهر وتقلب بصورة دورية ليدخل الفطر إلى داخلها.وهناك طريقة سريعة لتحضيرها أيضاً.تتميز الجبنة الزرقاء بأنها تجمع النكهة والطعم الحامض الحاذق والرطوبة (النعومة) العالية وبها دهن يصل إلى 50% (من وزنها الجاف).والجبنة الزرقاء لا تؤكل أكلاً وإنما تمسح على الخبز أو البسكويت المالح مسحاً خفيفاً جداً، أما مدمنو هذا النوع من الجبن فإنهم يقتطعون جزءاً يسيراً من أعلى المثلث ويذيبونه في حلمات اللسان فحدث عن السعادة واللذة اللتين يتمتعون بها ولا تبالي.